[ad_1]
أنا متعب. سئمت شعار البقاء، سئمت المعاناة، سئمت لامبالاة العالم، كتب محمد ر. مهاوش (مصدر الصورة: Getty Images)
عندما خرجت أنا وعائلتي من تحت أنقاض منزلنا في غزة في ديسمبر/كانون الأول 2023، لم نكن نعرف ما إذا كان الهدوء سيستمر لفترة كافية لإعادة البناء أو حتى للحزن.
نفس عدم اليقين موجود الآن مرة أخرى، حيث أشعر وكأن لحظة الرعب والتعب قد توقفت مؤقتًا ولكنها لم تنته أبدًا. مرة أخرى، نحاول أن نشعر بالفرح وسط الهدوء غير المؤكد الناجم عن وقف إطلاق نار آخر في غزة.
للمرة الأولى منذ 15 شهراً، توقفت الطائرات بدون طيار عن طنينها، وتراجعت الطائرات المقاتلة، وتوقفت القنابل عن السقوط. ومع ذلك، من خلال الصمت يظهر شكل آخر من أشكال الألم لما فقدناه – المنازل، والأحلام، والأشخاص الذين تحملوا الكثير لفترة طويلة حيث اعتبر العالم أن حياتهم يمكن التخلص منها.
لقد قمت بتغطية هذه الحرب منذ لحظاتها الأولى عندما بدا العالم وكأنه يحبس أنفاسه، ثم يزفر بلا مبالاة. أتذكر تلك الأيام الأولى، أول شهرين، عندما كان الساسة والدبلوماسيون يتبادلون الأقوال المبتذلة والوعود الفارغة، ولم يعترفوا ولو لمرة واحدة بنا كبشر يتحملون ما لا يمكن تصوره.
منذ البداية، كان صمت العالم يصم الآذان، وكان تقاعسه عن التحرك مدمراً مثل القنابل نفسها. فبينما كانت أحيائنا تحترق، كان العالم يجلس في الاستوديوهات ويناقش قيمتنا على شاشة التلفزيون، وكأن الاعتراف بإنسانيتنا قد يطفئ النيران بطريقة أو بأخرى أو ينقذ حياة شخص واحد.
بينما أشاهد أخبار غزة ما بعد الحرب، يبدو أن الأحياء التي كنت أسير فيها ليلاً ونهاراً وأقوم بتغطية أخبارها لم تعد موجودة. ينفطر قلبي عندما أرى بعض الأماكن التي ولدت وترعرعت فيها أصبحت الآن مجرد علامات على خريطة الدمار.
لقد وقفت بين رماد المدارس والمستشفيات والمساجد، وهي الأماكن التي كانت ذات يوم ملاذات وأصبحت الآن مقابر. لقد كتبت أسماء الموتى مرارا وتكرارا حتى ارتعشت يدي وثقل قلبي من ثقل قصصهم.
إننا نرحب بوقف إطلاق النار ونحتاج إليه بشدة. لقد حان الوقت للشفاء، هذا إذا كان بإمكاننا الشفاء. لكن وقف إطلاق النار لا يمحو الندوب المحفورة في بيوتنا وأرواحنا الذين نجوا.
إنه لا يعيد أحبائنا أو يعيد بناء ما تم تدميره في نفسيتنا الجماعية. فهو لا يعالج جذور الوحشية: عقود الاحتلال، والحصار، والتجريد المنهجي من الإنسانية الذي جعل من غزة سجنا مفتوحا.
فهو لا يعد بأن القنابل لن تسقط مرة أخرى، أو أن دورة الموت لن تتكرر، أو أن الحرب القادمة لن تكون أكثر تدميرا.
إن غزة تحتاج إلى حلول، وليس إلى وقف إطلاق النار
هذه هي الحقيقة التي لا تحتمل، والتي تصاحب كل لحظة مما يسمى بلحظات “السلام” في غزة. انها دائما مؤقتة. ولا تزال غزة تحت حصار شامل، وحدودها مفتوحة فقط أمام شاحنات المساعدات والموتى، ويختنق شعبها تحت الحصار الذي يحرمهم من أبسط حقوق الإنسان.
حتى في غياب القنابل، يضرب الاحتلال في أبسط أشكال حياتنا. ويستمر في أشكال أخرى – في الحرمان من الدواء، والمياه النظيفة، والقدرة على التحرك بحرية، في سحق سبل العيش ومحو الأمل.
أفكر في صبي يبلغ من العمر تسع سنوات التقيته بين أنقاض منزله في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وكان وجهه مليئًا بالغبار والدموع. لقد تشبث بي، كما لو كان بإمكاني تقديم إجابات، وكانت لعبته المكسورة ملتصقة بقوة بصدره مثل درع ضد عالم قد خانه بالفعل.
سؤاله لماذا يكرهوننا؟ كان خارقًا وغير قابل للإجابة. لقد كافحت لمواجهة نظراته. شعرت بالخجل من صمتي عندما أدركت عدم قدرتي على تفسير القسوة التي تعرض لها. بقي ثقل ألمه معي لفترة طويلة بعد مغادرتي. ففي نهاية المطاف، كنا جميعا في مواجهة مثل هذا الدمار. لم يكن عمره أكثر من 10 سنوات، لكن عيناه كانتا قديمتين، مليئتين بالألم الذي لا ينبغي لطفل أن يعرفه على الإطلاق.
وقف إطلاق النار لا يجيب على سؤاله. إنه لا يعيد له منزله وطفولته وإحساسه بالأمان. فهو لا يضمن حصوله على مياه نظيفة للشرب، أو دواء عندما يمرض، أو مستقبل خال من الخوف. ولا يعد بأنه سينشأ في عالم يعتبره إنسانًا، ويقدر حياته مثل أي عالم آخر.
اشترك الآن واستمع إلى ملفاتنا الصوتية على
وهذا هو الخلل الأساسي في الاستجابة العالمية لآلام غزة المستمرة. يتم التعامل مع عمليات وقف إطلاق النار في منزلي على أنها نقاط نهاية عندما تكون في أحسن الأحوال فترات استراحة.
وفي حروب الأعوام 2008 و2012 و2014 وأخيراً في حروب 2021، خلفت اتفاقيات وقف إطلاق النار التي أعقبت هذه الحروب آلاف القتلى وعشرات الآلاف من النازحين.
وكان الهدوء في القنابل قصيرا، حيث ظلت الأسباب الجذرية ــ الحصار، والاحتلال، والحرمان الممنهج من الحقوق الفلسطينية ــ قائمة في مكانها. وتدفقت المساعدات لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، ولكن لم يتم بذل أي جهد لتفكيك أنظمة القمع التي تديم سياسات التدمير التي لا نهاية لها.
وبدلاً من ذلك، لم يسمح الهدوء المؤقت إلا بوضع الأساس للحرب القادمة، إلى أن تظهر الحتمية المأساوية التي لا تزال تطارد غزة اليوم. إن وقف إطلاق النار يقدم مهلة مؤقتة ولكن لا يوجد حلول حقيقية.
فهي تسمح للمجتمع الدولي بأن ينظر بعيداً، ويربت على ظهره لحثه على “ضبط النفس” و”وقف التصعيد”، في حين يتجاهل الظروف التي تجعل مثل هذا العنف أمراً لا مفر منه. وقف إطلاق النار ليس سلاما. إنه مجرد غياب الطائرات الحربية. إن السلام الدائم يتطلب العدالة، وقد حرمنا الفلسطينيون دائمًا من العدالة.
إن العدالة تعني المساءلة عن الجرائم المرتكبة ضد سكان غزة. إن العدالة تعني إنهاء الاحتلال، والحصار، والتجريد المنهجي من الإنسانية للفلسطينيين.
العدالة تعني الاعتراف بحقنا في الوجود، والعيش في حرية، وتقرير مستقبلنا.
إن العدالة تعني ضمان عدم فقدان المزيد من الأطفال لمنازلهم، وعدم محو المزيد من الأسر من على وجه الأرض، وعدم التعامل مع المزيد من الأرواح على أنها قابلة للاستهلاك.
وبدون العدالة، يصبح وقف إطلاق النار أمراً هشاً وعابراً. إن التحرر من أغلال الاحتلال وإنهاء الحصار الخانق في غزة يعني أن الأسر لم تعد تخشى خسارة منازلها، وأن يلعب الأطفال تحت سماء خالية من الطائرات بدون طيار، وأن يصبح الشعب أخيراً حراً في تقرير مصيره.
كصحفية، رأيت ما تعنيه العدالة بشكل مباشر: فهي تعني أن القصص التي أرويها ليست عن اليأس، بل عن الأمل. إن ذلك يعني الكتابة عن غزة المسالمة والمزدهرة، وليس مجرد البقاء على قيد الحياة.
وبدون هذا التحول، فإن الصمت بعد التفجيرات هو مجرد فترة فاصلة لمزيد من المعاناة. إنه لا يفكك أنظمة القمع التي جعلت الحرب ممكنة.
فهو لا يعالج عدم تكافؤ القوى الذي يسمح لأحد الجانبين بالاحتلال والحصار والقصف مع الإفلات من العقاب بينما يُترك للجانب الآخر ليتحمل. إنه لا يتحدى الرواية التي تصور الفلسطينيين كمعتدين أو المعايير المزدوجة التي تقيس معاناتنا بمقياس أخلاقي منحرف.
أنا متعب. تعبت من تسمية البقاء، تعبت من المعاناة، تعبت من لامبالاة العالم. أتذكر ذات ليلة أثناء الحرب، كنت جالساً في زاوية من منزلي المدمر، ممسكاً بابني البالغ من العمر ثلاث سنوات بينما كان صوت القنابل يهز الأرض. كانت ذراعيه الصغيرتين ملفوفتين حول رقبتي، ودموعه تغمر كتفي وأنا أهمس لي بأنني لم أصدق نفسي.
هذا الإرهاق – التعب العميق الناتج عن محاولة حمايته في عالم يبدو مصممًا على تحطيمنا – هو تعب أحمله كل يوم. لقد سئمت من كتابة نفس القصص، ومن المناشدة لنفس الإنسانية، ومن مشاهدة نفس الفظائع تتكشف مرارًا وتكرارًا.
وقف إطلاق النار ليس حلا. إنها لحظة ارتياح وفرصة لرعاية الجرحى والحداد على الموتى وجمع ما تبقى من حياتنا المحطمة. ولكن هذا ليس كافيا. ولن يكون كافياً أبداً أن يتوقف العالم عن معاملتنا باعتبارنا أضراراً جانبية لخطاب “الدفاع عن النفس” الذي يستخدمه المحتل، حتى يُنظر إلينا باعتبارنا أكثر من مجرد إحصائيات في نشرة الأخبار.
محمد ر. مهاويش صحفي وكاتب وباحث فلسطيني متعدد الوسائط حائز على جوائز من مدينة غزة، ومؤلف ضيف لكتاب “أرض بها شعب”.
تابعوه على تويتر: @MohammRafik
هل لديك أسئلة أو تعليقات؟ راسلنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: editorial-english@newarab.com
الآراء الواردة في هذا المقال تظل آراء المؤلف ولا تمثل بالضرورة آراء العربي الجديد أو هيئة تحريره أو طاقمه.
[ad_2]
المصدر